[ad_1]
عبدالمغيث الشباني
قبل حلول هذا الصيف، لم يكن أشد المتتبعين للريف المغربي يتوقع أن يعود الإقليم إلى واجهة النقاش العمومي بهذه السرعة وبهذا الثقل. وحتى لو توقّع أحد عودة الريف للواجهة، فلن يتخيل أن عودته ستكون بين نقيضين حدّ الصدمة: من جهة جنازة مهيبة لعيزي أحمد، والد ناصر الزفزافي، أحد أبرز رموز الحراك، ومن جهة أخرى زفاف موسى، حيث البذخ المفرط، وأموال تتناثر على الفنانين، وسيارات فارهة تُستعرض في موكب أشبه بكرنفال.
في الريف هذا الصيف اجتمع الموت والفرح، الصرخة والزغرودة، الدموع والتصفيق. مشهدان يلخّصان المغرب العميق: بين من يصرخ مطالباً بمستشفى وجامعة ومركز صحي، وبين من ينفق الملايين على ليلة عرس قد تُمَوّل تجهيز قاعة علاج أو بناء مدرسة.
ولأن الريف دائماً يثير الجدل، انقسمت الآراء: هناك من يرى أن أبناءه يسبحون في بحر من أموال الحشيش والتهريب، وهناك من يراهم وجوهاً مطبوعة بالفقر والقهر. البعض يصفهم بأنهم أثرياء البلد، والبعض الآخر يراهم منكوبين. والحقيقة أن الريف ليس سوى مرآة لبقية المغرب: فيه طبقة غنية راكمت الثروات، وفيه من لا يجد قوت يومه. فيه من يملك فيلات وسيارات فاخرة، ومن لا يجد حتى درهماً ليؤدي ثمن الخبز.
منذ إعلان وفاة عيزي أحمد، وما تلاه من قرار مندوبية السجون السماح لناصر بحضور جنازة والده، انطلقت موجة إشادات، لأن المندوبية اختارت لغة التسامح لا لغة الخوف. فكان طبيعياً أن تتوافد الحشود من مختلف المدن، ليس لأن ناصر ابن الريف وحده، بل لأنه صار رمزاً لمغاربة كثر.
لكن الدرس الأهم لم يكن في الجنازة نفسها، بل في تلك اللحظة التي صعد فيها ناصر الزفزافي إلى سطح منزل العائلة، ليمسك بالميكروفون ويخاطب الآلاف. كثيرون توقعوا أن يأتي صامتاً، يودّع أباه وينصرف. لكن حين فتح فمه، حبس الجميع أنفاسه: هل سيهاجم الدولة؟ هل سيعيد خطاباته النارية القديمة؟ هل سيستغل اللحظة ليخلّد نفسه رمزاً للغضب الشعبي؟
لكن المفاجأة كانت في نبرة جديدة. الزفزافي، الذي قضى سنوات خلف القضبان، تحدث عن الوطن، عن المغرب من طنجة إلى الكويرة، عن وحدة التراب، عن الصحراء التي حاول الانفصاليون ربطها بالحراك. أغلق الباب في وجه المرتزقة وأحرق أوراق من حاولوا المتاجرة بالقضية. والأهم: شكر المندوبية العامة للسجون.
قد يبدو الأمر بسيطاً، لكنه أعمق مما يُظن. ناصر الذي عُرف بحدة خطابه، يشكر مؤسسة رسمية للدولة. ذلك اعتراف ضمني بوجودها وبقدرتها على إدارة شؤونه، حتى وهو داخلها. البعض قرأها تغيراً في موقف الرجل، أو إدراكاً بأن معركة الشارع وحدها لا تكفي.
من يعرف شخصية ناصر يدرك أن الشكر عنده ليس سهلاً. ليس لأنه جاحد، بل لأنه لا يحب أن يُفهم كلامه كاستعطاف. هذه طبيعة الشخصيات القيادية التي ترفض التملق، لكنها، حين تشكر، فإنما تفعل عن قناعة.
وهنا نعود إلى سؤال أكبر: لماذا الدولة؟ ما معنى الدولة؟ أتذكر سؤالاً في امتحان الفلسفة زمن الباكالوريا، بعد دستور 2011 وحراك 20 فبراير: “لماذا الدولة؟”. يومها كتبت أن عكس الدولة هو الفوضى. عكسها هو الغلبة للأقوى. الدولة، رغم كل سلبياتها وأخطائها، تبقى صمام الأمان من الانزلاق إلى قانون الغاب.
نعم، الدولة قد تكون قاسية، وقد تظلم أحياناً، لكن غيابها أسوأ بما لا يُقاس. ولعل ناصر نفسه، وهو يشكر مؤسسة من مؤسساتها، كان يعلن ضمناً: “لا بديل عن الدولة”.
صحيح أن الفساد ينخر، وكلنا نعلمه، لكن إصلاحه لا يكون بهدم الدولة أو استدعاء الخارج للتدخل. كل التدخلات الخارجية في بلدان المنطقة لم تجلب سوى الخراب.
أما عن حرية التعبير، فالدولة التي سمحت لناصر بالخروج للجنازة، كان بإمكانها أن تمنعه من الكلام. كان يمكن أن تفرض عليه الصمت، لكنها تركته يعبّر أمام عدسات الكاميرات. أليست تلك إشارة إلى أن حرية التعبير، مهما ضاقت، لا تزال ممكنة؟
وفي هذا المشهد، يطل اسم آخر: إلياس المالكي. قد يبدو بعيداً، لكن في العمق هناك خيط رابط. فمنذ اعتقال ناصر، برز جيل جديد من الشباب: صناع محتوى، ستريمرز، بودكاسترز. يعبرون بجرأة، أحياناً بواقعية، وأحياناً بسخرية. المالكي يخاطب المغاربة من سطح بيته عبر البث المباشر، يصعد ويهوي، يمدح وينتقد، حتى أمه تتدخل أحياناً لتذكره بخطورة ما يقول.
ناصر من سطحه خاطب المغاربة كلهم، داخل وخارج الوطن. والمالكي من سطحه يخاطب المغاربة بطريقته. بينهما أوجه اختلاف كبيرة، لكنهما يلتقيان في جوهر واحد: التعبير. كلٌ بأسلوبه، كلٌ بوسيلته، لكن الجوهر واحد.
وهكذا تصبح لوحة الريف لوحة للمغرب كله: بين من يبحث عن حياة كريمة ومن يغرق في بذخ لحظة عابرة، بين من يصرخ طلباً للعدالة ومن يصرخ للترفيه، وبين دولة تُسائل نفسها كل يوم: كيف تحافظ على هيبتها وتتيح في الوقت نفسه حرية التعبير؟
الدروس كثيرة: أن الدولة ضرورة لا مهرب منها، وأن الحرية تُمنح بقدر، وأن الرموز، مهما اختلفت وجوههم، ليسوا سوى مرايا تعكس قلق مجتمع بأكمله.
[ad_2]
المغربي almaghribi – أخبار المغرب : المصدر

