[ad_1]
في خضم التفاعل الوطني مع خطاب العرش التاريخي الملكي السامي الأخير، والذي شكّل لحظة مفصلية لإعادة ترتيب أولويات الحقل السياسي المغربي، برز من جديد مشكل قديم: ضعف التواصل السياسي لدى بعض المنتخبين المحليين، خصوصًا بمدينة طنجة. فبينما انتظر المواطنون تفاعلات واعية ومسؤولة مع التوجيهات الملكية، تفجّر جدل واسع على خلفية تدوينة مثيرة للجدل للنائب الأول لعمدة طنجة، محمد غيلان الغزواني، قال فيها إن “الملك يستفز الأحزاب”.
رغم أن النائب، كما يبدو، أراد التعبير عن قوة الخطاب الملكي وصرامته في الدفع نحو الإصلاح، إلا أن الكلمة المختارة – “يستفز” – حملت شحنات دلالية أثارت أكثر من علامة استفهام، ليس فقط لغويًا، بل سياسيًا ومؤسساتيًا.
العودة إلى المعاجم العربية توضّح أن لفظ “استفز” يحمل معاني الإزعاج، والتحريض، ودفع الآخر للتصرف بعصبية أو غضب. فهو في لسان العرب يعني الإغراء والإزعاج والتحفيز العنيف. وفي المعجم الوسيط، يُشير إلى إثارة الأعصاب أو دفع الآخر لتصرف مستعجل. هذه المعاني، التي تُستخدم عادة في سياقات عدائية، لا تستقيم إطلاقًا عند وصف خطاب ملكي سامٍ، عُرف عنه الاتزان والحكمة والدعوة للإصلاح الهادئ، لا التصعيد أو الإرباك.
والأهم من ذلك، أن الاستعمال السياسي لمصطلح “استفزاز” يرتبط عادة بخطابات متشنجة، أو ممارسات هجومية تستدرج خصومًا سياسيين لردود فعل غير محسوبة. وبالتالي، إسقاط هذا التوصيف على مؤسسة ملكية دستورية سامية، يتنافى مع الثوابت الرمزية والدستورية التي تضبط العلاقة بين الملك وباقي الفاعلين السياسيين.
في الدستور المغربي، وتحديدًا في الفصل 42، يُنص على أن الملك هو ضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها. وعليه، فخطاباته ليست موجهة ضد جهة، بل تُشكل توجيهات استراتيجية لكافة مكونات الدولة، بمن فيها الأحزاب السياسية.
الوصف بـ”الاستفزاز”، حتى لو سُوّق بأنه بمعناه الإيجابي، لا يليق لا بمقام الملك، ولا بطبيعة الخطاب الذي دعا إلى تجديد النخب وإعادة الاعتبار للعمل السياسي، بل يُشبه محاولة قراءة سياسية بلغة فيسبوكية، لا بلغة دولة ومؤسسات.
الملك، باعتباره المرجعية الجامعة والرمزية الوطنية العليا، لا “يستفز” أحدًا؛ بل يوجه، يُقوّم، ويحمي التوازنات. وحتى لو أراد مسؤول ما التعبير عن عمق الرسائل الملكية، فهناك بدائل أكثر دقة واحترامًا، من قبيل: “الملك يدفع الأحزاب للمراجعة الجذرية”، أو “يحملها على تحمل مسؤولياتها التاريخية”، وهي تعابير تنسجم مع منطق المؤسسة وتليق بمخاطبة مقامها.
ما حدث ليس مجرد زلة لسان، بل عرضٌ لحالة أوسع من القصور في مهارات التواصل السياسي لدى عدد من المنتخبين المحليين، الذين يُديرون تواصلهم بنفس عفوية رواد فيسبوك، دون وعي بالمقام، أو بلغة الدولة، أو حتى بسياقات الدستور.
إن المنتخب المحلي، خصوصًا إذا كان يشغل منصبًا رفيعًا كنائب عمدة، لا يتحدث باسمه الشخصي، بل يُفترض أن يكون لسان حال مؤسسة عمومية، يخضع لرقابة معنوية مستمرة من المواطنين والمؤسسات. والكلمة التي ينطق بها – أو يكتبها – تُصبح حاملة لمضامين سياسية، قد تكون لها كلفة رمزية أو حتى انتخابية.
وفي حالة النائب محمد غيلان الغزواني، فإن اختياره لعبارة غير دقيقة، دون مراعاة للسياق والمؤسسات، يُفقد التدوينة أي قيمة سياسية، ويحوّلها إلى مصدر تشويش.
الخطير في الأمر، أن هذا النوع من الخطاب بات يتكرر. فعدد من المنتخبين المحليين، في طنجة وغيرها، باتوا يتعاملون مع منصات التواصل كمساحة شخصية للتعبير الانفعالي، وليس كأداة تواصل مؤسساتي تستلزم وزن الكلمات، واحترام التراتبية، وفهم رمزية المخاطَب.
ولأن الفضاء الرقمي أضحى ساحة للمحاسبة قبل أن يكون ساحة للتفاعل، فإن أي خطأ لغوي، أو زلة تعبيرية، يمكن أن تُفهم بشكل خاطئ، وتُستثمر سياسيًا، وتُضعف ثقة المواطنين في نضج نخبهم المنتخبة.
كل هذا يعيدنا إلى سؤال مركزي: هل نُخبنا المحلية مؤهلة فعلاً لمخاطبة الرأي العام بلغة سياسية ناضجة؟ وهل تملك أدوات الفهم العميق للتوجيهات العليا ومضامين الخطابات الملكية؟
الجواب على ما يبدو: ليس بعد.
ولهذا، بات من الضروري – بل من الملحّ – أن يخضع المسؤولون الجماعيون لدورات تكوينية في مهارات التواصل السياسي، وفهم لغة الدولة، والتعبير المؤسساتي، وتمييز الخطاب السياسي من الخطاب الفيسبوكي. لأن مدينة بحجم طنجة، المُقبلة على تحولات عمرانية واستثمارية كبرى، تحتاج إلى نخبة تُحسن الحديث باسمها… لا من يُربكها بكلمة غير محسوبة.
الخطابات الملكية ليست مجالاً للتجريب اللغوي أو الانفعال السياسي. إنها لحظات دستورية توجيهية تُقوّم أداء الفاعلين، وتُرشد السياسات العمومية، وتدعو إلى إصلاح حقيقي.
والمسؤول، الذي لا يُتقن التعبير، يضعف موقعه، ويفقد احترام المواطنين، ويُسيء – عن غير قصد – إلى رمزية المؤسسات التي يُفترض أنه يمثلها.
لقد آن الأوان لمغادرة منطق العفوية، والدخول إلى زمن السياسة الواعية، حيث لا مجال لخلط النوايا بحرج الكلمات.
[ad_2]
طنجة بوست tanjapost – أخبار طنجة : المصدر


