[ad_1]
في مدينة طنجة، تقف مدرسة وادي المخازن كجملة ناقصة في نص طويل يُعاد كتابته بالإسمنت والزجاج. وسط التهافت على الأبراج الفاخرة والمشاريع العقارية الضخمة، يبدو أن واحدة من أعرق المدارس العمومية بطنجة قد صارت مجرد مساحة محتملة لمشروع جديد، تُغري المستثمرين أكثر مما تُلزمهم بواجب الحفظ.
تأسست المدرسة في خمسينيات القرن الماضي، في مرحلة مفصلية من تاريخ المغرب، حيث بدأ التعليم العمومي يلعب دورًا محوريًا في صناعة النخب الوطنية. صُممت وفق طابع معماري أنيق مستوحى من فترة الحماية، بموقع استراتيجي يطل على البحر وقريب من المدينة القديمة، كأنها جُعلت عمدًا لتكون جسرًا بين ماضي طنجة ومستقبلها.
لكن هذا “الموقع المميز” هو بالضبط ما جعل المدرسة تدخل دائرة الاستهداف. فوسط الانفجار العقاري الذي تعرفه طنجة، لم يعد يُنظر إليها كصرح تعليمي أو ذاكرة جماعية، بل كوعاء عمراني يمكن استثماره بشكل أفضل. هنا تبدأ الحكاية.
ما يجري اليوم في محيط المدرسة يُثير القلق. ورشات ترميم غامضة، تحرّكات عقارية صامتة، تصاميم أولية لأبراج شاهقة يُقال إنها ستحترم المجال البصري، لكنها في الحقيقة ستحجب الشمس عن مبنى عتيق يُصارع الزمن. الترميم الذي طال الواجهة يخفي مشروعًا أوسع يستهدف الارتقاء العقاري بالمكان لا بالمدرسة.
ينص القانون المغربي على حماية المعالم التاريخية من كل ما قد يشوّه منظرها أو يُفقدها وظيفتها، لكن هذا النص القانوني لا يُطبق بالصرامة اللازمة. فالتأويلات، الاستثناءات، والصفقات غير المعلنة، قد تفتح المجال لتجاوز القانون باسم “التهيئة” أو “الاستثمار الثقافي”. فمدرسة وادي المخازن ليست استثناء، بل نموذجًا صارخًا لهذه الإزدواجية.
المدرسة ليست مجرد بناء، بل ذاكرة تربوية، شاهدٌ صامت على أجيال تعاقبت، وعلى زمن كانت فيه المدرسة العمومية مَعلَمًا لا يُمسّ. فهل يُعقل أن تتحول إلى خلفية زخرفية لمشروع إسمنتي جديد؟ هل من المنطقي أن تُغطى نوافذها العالية بضجيج الرافعات وشعارات “مشروع فاخر بإطلالة بانورامية”؟
تعددت الوعود بتحويل المدرسة إلى مركز ثقافي، أو معهد للفنون، وحتى متحف تربوي. لكن على الأرض، لا شيء يوحي بإرادة صادقة للحفاظ على قيمتها الرمزية. الوزير السابق للتعليم صرّح بنيته صيانة المبنى، بينما الوزير الحالي للثقافة يرفع شعار حماية التراث… أما الواقع، فيبدو أن القرارات تُصاغ وفق خارطة المصالح لا المصلحة العامة.
مدينة طنجة تتغير بسرعة، لكن هذا التغير لا يراعي التوازن. الأبراج ترتفع، المشاريع تتكاثر، بينما المدارس العمومية، الفضاءات الثقافية، والمعالم التراثية، تُزاح جانبًا. مدرسة وادي المخازن أصبحت مرآة لما يجري في المغرب ككل: سباق نحو التمدن يدهس الهوية في طريقه.
في باريس قلب أوروبا، تُمنع الأبراج من الدخول إلى قلب المدينة التاريخي. في لندن، لا يُسمح بعلو يتجاوز الطابع العام حول ساعة بيغ بن. في روما، لا بناء يُقارب الكولوسيوم. وفي اليابان، تعيد كيوتو بناء البنايات القديمة بنفس الحجر والألوان، حفاظًا على ذاكرة عمرانية وروحية.
وفي المقابل، لدينا في المغرب بنايات تُهمل حتى تنهار، ثم تُستغل أطلالها لتبرير إقامة مشاريع “تجديد حضري” بلا روح. أمثلة من فاس، الرباط، والدار البيضاء كلها تؤكد أن حماية التراث ليست أولوية، بل مجرد شعار يُستعمل في المناسبات الرسمية أو المؤتمرات الدولية.
رغم التصريحات المتكررة للوزير الحالي للثقافة، مهدي بنسعيد، حول أهمية الحفاظ على التراث الوطني وضرورة تصنيفه وصيانته، إلا أن الواقع على الأرض لا يُترجم هذا الخطاب إلى فعل. فالوزارة، رغم امتلاكها لآليات قانونية مهمة مثل الظهير الشريف المتعلق بحماية التراث المعماري (قانون 22.80)، لا تُفعل صلاحياتها بالشكل الكافي حين يتعلق الأمر بمباني مهددة في مناطق حيوية.
تصنيف مبنى ما كتراث يُفترض أن يفرض حمايته من أي تشويه أو تغيير في محيطه، لكن في حالة مدرسة وادي المخازن، لم تُفعّل هذه الحماية حتى الآن، وكأن التردد السياسي أقوى من النصوص القانونية. فهل ينتظر المسؤولون انهيار البناية أو تغطيته بالكامل حتى يكتشفوا قيمتها الرمزية؟
في زمنٍ تتسابق فيه المدن نحو الحداثة، تبدو طنجة وكأنها تركض بلا بوصلة عمرانية واضحة. بين وعود الفخامة وواقع التفاوت، تشهد المدينة طفرة في بناء الأبراج الشاهقة التي تُسوّق كرموز للتنمية، بينما تغيب رؤية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار البنية التحتية، العدالة المجالية، والذاكرة الحضرية. مشروع مدرسة واد المخازن نموذج لهذا المسار: تصميم جريء، تسويق مبهر، لكن واقعٌ متناقض. فساكنة الطابق الثلاثين في أحد الأبراج سيحظون بإطلالة بانورامية على البحر… لكنهم أيضًا سيُشاهدون أحياءً مهمّشة، طرقًا مختنقة، ومدارس تاريخية مهددة بالإسمنت. فهل نحن بصدد بناء مدينة قابلة للعيش… أم مجرد واجهة للبيع؟
رغم تحركات بعض الفاعلين الثقافيين، واهتمام من الإعلام ، لا يزال المجتمع المدني عاجزًا عن بناء جبهة موحدة للدفاع عن مدرسة وادي المخازن. الصوت مُشتّت، والتحركات فردية، ولا آليات ضغط حقيقية تُجبر المسؤولين على التحرك. والأخطر: أن الذاكرة، حين تُهمل، تُنسى… تمامًا كما يُنسى طفلٌ غاب عن المدرسة.
مدرسة وادي المخازن اليوم ليست فقط مبنى على حافة التحول، بل قصة وطنية مكتملة الأركان، تتقاطع فيها قضايا التخطيط الحضري، السياسات التعليمية، وأخلاقيات الاستثمار. إنها مرآة لمدينة تنمو بدون بوصلة، وتفقد ما يجعلها مميزة.
الحفاظ على هذه المدرسة ليس نضالًا نخبويًا، بل مطلب جماعي لإنقاذ ما تبقى من روح طنجة. فالعقارات تُشترى وتُباع، لكن الهوية لا تُقدّر بثمن.
هل نملك الشجاعة لنقول “كفى” قبل أن تُغلق نوافذ المدرسة إلى الأبد؟
أم أننا سنكتفي بمشاهدتها من الشرفة… في الطابق الثلاثين من برج جديد؟
[ad_2]
طنجة بوست tanjapost – أخبار طنجة : المصدر

